ثمرة الصيام
للشيخ علي الطنطاوي
ما من كاتب كتب في الصيام، ولا واعظ وعظ، إلا قرَّر أنَّ فوائد الصيام، أن تجوع هذا الجوع الاختياري، فتذكر من يجوع الجوع الاضطراري، وتفتقر هذا الفقر الموقت، فلا ينفعك مالك كلُّه في شراء رغيف خبز تأكله، فتذكر من يفتقر الفقر الدائم.
وهذا حقٌّ، ولكن هل وجدنا ثمرته؟
هل يفكر الصائم وهو يقاسي ألم الجوع، في الجائعين، أم يفكر كم بقي للمغرب. وكيف يقطع هذه المدة؟
...ويتصور مائدة الإفطار، ويتشهى غرائب الألوان، فيهتف بأهله [يكلمهم بالهاتف] أو يبعث إليهم رسولًا، ألا ينسوا شراب كذا؟ أو طعام كذا؟
ويمضي نهاره كلَّه سيئ الخلق، سريع الغضب، يسبُّ ويشتم، ويزلزل كلَّ أرض يطؤها، ويعكِّر كلَّ مجلس يدخله.
فإذا حان المساء، وصل إلى الدار، فشرب من المشروبات المثلجة، وأكل من الأطعمة الدسمة، ومن الحلويات الشامية، ما يكفي لإرهاق معدة أسد، وتخريب كبد حوت، ثم أخذ من الفواكه، وأعقبها بالشاي والقهوة... فلا يقوم عن المائدة إلا وقد صار بطنه كالكرة المنفوخة، التي لم يبقَ عليها إلا نفخة واحدة لتتمزق...
فما أفاد من الصيام النفع لصحته، ولا التهذيب لخلقه، ولا ذكر الجائع، ولا عطف على الفقير.
وإن جاد أحد، فإنما يجود على الشحاد المحترف، الذي لا ينقطع عن الشحادة، ولا يجوز إعطاؤه...
هذا ما بقي من الصيام الإسلامي.
صورة فنية عبقرية تصل إلى يد جاهل، فيغمسها بالماء ويمرغها بالتراب، ويلقيها في الشمس، حتى إذا لم يبق منها إلا خطوط مبهمة وألوان متداخلة قال: انظروا إلى هذه الصورة الفنية.
إنَّ الذي بقي لنا من الصيام الإسلامي، مثل الذي بقي لهذا الجاهل في تلك الصورة!
فإذا أردتم أيها القراء، أن تتداركوا ما بقي من رمضان، أن تنقذوا ما يمكن إنقاذه، أن تلحقوا لئلا تكونوا في قافلة الذين بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم صائمون، ولكن ليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش، ومصلون ولكن ليس لهم من صلاتهم إلا القيام والقعود – فتعالوا أبيِّن لكم!
ولكن خبِّروني أولًا، هل تريدون حقًّا أن تتداركوا ما بقي من رمضان؟
هل أنتم على استعداد لعمل الخير أم ليس عندكم إلا الكلام؟
يا إخواننا:
إنَّ الغنى والفقر أمران نسبيان، فالذي عنده مئتا ليرة في الشهر هو غني بالنسبة لمن ليس له إلا ثلاثون، ويستطيع أن يعطيه ليرة لا يحس بكبير نقص لها، وتكون عند الآخر شيئًا كبيرا، لأنها مورده في يوم كامل.
والذي يملك خمسين ألف ليرة هو فقير بالنسبة لكبار الأغنياء، وأصحاب الشركات.
فالمسألة نسبية، لذلك أمر الإسلام بالصدقة مهما قلت، حتى لو كانت تمرة...
والخمس ليرات التي لا أحسُّ أنا بدفعها تكون عند (آذن المحكمة) ثروة، يستطيع أن يقضي بها خمس حاجات، والألف ليرة تكون عندي ثروة، ولكنها عند الأغنياء كلا شيء.
لذلك أريد منكم يا أيها الصائمون، أن يخرج كلٌّ منكم شيئًا قليلًا من موارده في هذا الشهر، واحدًا في المئة مثلا أو نصف واحد.. فيعطيه من هو أقل منه...
وليبدأ كلٌّ بأقربائه وجيرانه ومن يعرف.
وأنا أعلم أنَّ في البلد كثيرين يحبون أن يعطوا، وكثيرين من المستحقين، ولكن هؤلاء لا يعرفون أولئك، ولابد من وسطاء خير، وقد أخبر الشرع بأنَّ لوسطاء الخير والدالين عليه مثل أجر فاعله، فلماذا لا تكون الجمعيات الخيرية وسيط الخير؟
وأنا من سنين طويلة آخذ من كرام التجار وأثريائهم وأهل الدين والخير فيهم، وأعطي رواتب لجماعة، لو ذكرت أسماءهم (ولن أفعل) لصعق القراء، ولم يصدقوا أن معظمهم يحتاج للصدقة، وما كنت لأشير هذه الإشارة لولا أن اثنين منهم توفيا إلى رحمة الله.
إنَّ الدين والإنسانية، وكل مبدأ خير، يدعوكم أيها الصائمون لإعداد حملة إحسان، تكفرون بها عن تقصيركم في رمضان، وتبلغون بها المقصود من الصيام، والمناسبة حاضرة وهي صدقة الفطر...
وليعط كلُّ ربِّ عمل عمَّاله، علاوة يسيرة على العيد؛ وكلُّ موظف (آذنه)، وكلُّ معلمي مدرسة الخدم فيها، وكلُّ ربة بيت صانعتها، حتى تكون فرحة العيد شاملة.
وليعلم من يعطي أنَّ أوَّل الثواب ما يشعر به من السرور القلبي، عندما يرى فرحة من يعطيه، وأوسطه التعويض في الدنيا، وآخره وأعظمه ثواب الآخرة.
____________________