الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كما شهد هو سبحانه لنفسه والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وأشهد أن أفضل خلق الله وأحبهم إلى الله، وأهداهم إليه سبيلًا، عبد الله ورسوله وصفوته من خلقه محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164]، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
اعلموا رحمكم الله أن الصوم مظهر من مظاهر الدين الحنيف، ودليل قاطع على القيام بأمر الله عن محبةٍ ورضىً وانقيادٍ وخضوعٍ تامٍ لأوامر الله تبارك وتعالى، ﴿ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 71]، ولله سبحانه الحكمة البالغة.
وقد فرض الله على المسلمين الصيام لحكم عديدة، كلها في صالح الإسلام والمسلمين، فمنها أن الصيام يقوي النفس والإرادة والعزيمة، وذلك أن الإنسان متى امتثل أمر الله تبارك وتعالى واستطاع أن يغالب شهواته فيسيطر عليها، ويترك المشارب الحلوة والمآكل اللذيذة وغير ذلك، امتثالًا لأمر الله واحتسابًا للثواب عنده، عندها تُربى عند الصائم إرادة قوية صارمة، وصار عبدًا لربه، لا عبدًا لشهواته ومطامعه، واقتدر على امتلاك زمام نفسه وإرشادها وتوجيهها الوجهة الصالحة.
قال الشاعر:
وَمَا يَرْدَعُ النَّفْسَ اللَّجُوجَ عَنْ الْهَوَى
مِنْ النَّاسِ إلَّا حَازِمُ الرَّأْيِ كَامِلُهْ
فليس المقصود من الصيام في الإسلام هو إتعاب النفس وتعذيبها، كما يتوهمه بعض الناس، وإنما المقصود منه تربيتها وتزكيتها وتعليمها الصبر عن الشهوات، وترويضها على الطاعات، كما روى ابن ماجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الصيام نصف الصبر)).
فالله غني عنَّا وعن عملنا، وما كتب علينا الصيام إلا لمنفعتنا، ولإعداد نفوسنا للسعادة والتقوى، والفوز بلقائه، ومجازاته الجزاء الأوفى، كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))، قال تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأَِنْفُسِهِمْ ﴾ [الروم: 44].
وليست فوائد الصيام مقصورة على الفوز بلقاء الله في الآخرة فقط؛ بل له من الفوائد الكثيرة في الدنيا ما لا يحصى:
فمن فوائده: أن الذي يصوم إيمانًا واحتسابًا لا يُنتظر منه أن يأكل أموال الناس بالباطل، أو يمسك بأعراضهم أو يخونهم في أماناتهم، فلا يسهل عليه أن يراه الله على باطلٍ أو فعلٍ حرام.
ومن فوائده: أن الصيام أقوى مربٍّ للإرادة، وكابح لجماح الأهواء؛ كما قال مفسر القرآن البيضاوي: (إن الصيام: الإمساك عن جميع ما تهوى النفس مما لا يرضي الله).
ومن فوائده: أن يتذكر الأغنياء والموسرون أنَّ لهم إخوانًا فقراء ليواسوهم وليعطفوا عليهم، وذلك بعد أن يذوقوا ألمه، ويعرفوا الجوع وحرارته، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع إنه بئس الضجيع)).
ومن فوائد الصيام: إنه يَصِحُّ الأبدان ويقويها، وينشفها من الرطوبة، وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((صوموا تصحوا))، وقال: ((الصوم جُنَّة))، أي: يستر صاحبه ويقيه من الأمراض والآثام والمضار والمعاصي.
جعلنا الله ممن وفقوا في صيام هذا الشهر المبارك وَقَبِلَهُ منا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لنا جميعًا ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي دعى إلى الإحسان، وحرم الظلم على نفسه، وجعله بيننا محرمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، رحمة للعالمين، ورسولًا للثقلين، وجعل محبته فرضًا عليهم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
اعلموا رحمكم الله أن الله افترض علينا الصوم، وجعل كل واحد منا أمينًا على نفسه رقيبًا عليها، فلاحظوا أنفسكم وراقبوها، واحذروا الغيبة والنميمة، والنظر إلى المحرمات، وقول الزور.
فقد قال جمع من العلماء منهم الأوزاعي: ((إن الغيبة والنميمة والكذب تفطر الصائم، وتوجب قضاء ذلك اليوم الذي اغتاب فيه، أو نمَّ فيه، أو كذب فيه))، وقال الإمام ابن حزم: ((إن الصائم يفطر بأي معصية يرتكبها حالة كونه ذاكرًا لصومه متعمدًا المعصية)).
ويصدق ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)).
وقال أحد العلماء - فيمن يعصي وهو صائم -: ((أنه كمن يبني بيتًا ويهدم بلدًا كاملًا)).
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا في عبادته، واعلموا أن الصوم لله، وأن جزاءه الجنة، فاجتنبوا الغيبة والنميمة والكذب والمعاصي؛ فإنها منقصات للصوم، محبطات لثوابه.
فليحذر كل إنسان منَّا أن يكون حظه من صيامه الجوع والعطش، أو أن يكون كمن يبني بيتًا، ويهدم بلدًا كاملًا.
فاتقوا الله، فإن خير الزاد التقوى، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن أحسن الحديث كتابه، فاقرأوه واستمعوه، ولاحظوا معانيه، فقد جمع وأوعى، ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾ [القمر: 17].
وعليكم بسنة نبيكم؛ فإنها أصدق السنن وأحسنها، فاتبعوا أوامره؛ فإنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين، واجمعهم على الحق، اللهم ولِّ علينا خيارنا، وانصر أمتنا وسلطاننا، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأيد هذا الدين، بمن تحبه وترضاه يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفرج كربهم، ويسر لهم أمورهم، وقوهم وانصرهم على أعدائهم؛ برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِْحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُّمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90،91].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يبارك لكم ويزدكم، ولذكر الله أكبر، والله مطلع على ما تفعلون.