(أحدها) من ذرعه القي بدون إرادة منه فصومه صحيح بخلاف من استقاء مختاراً فإن عليه القضاء وليس عليه كفارة على الأصح من الأقوال، لأنه لا يتقيأ إلا لحاجة صحيحة أو عفة نفسية، كما استقاء أبو بكر مما أكله من كسب المتكهن.
(ثانيها) الحجامة مفطرة للحاجم والمحجوم، كما وردت الأحاديث الكثيرة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصحيح الذي يجب العمل به وترك ما سواه، لأن القائلين بعدم الإفطار بها ليس عندهم ما يصح الاستدلال به قطعاً سوى حديث مطعون في زيادة فيه لمخالفتها الواقع وهو حديث:(احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم محرم صائم)، والصحيح الثابت أنه احتجم وهو محرم ليس بصائم.
وقد طعن الإمام أحمد وغيره من أئمة الحديث بهذه الزيادة وردوا هذا الحديث بسببها، وقالوا إن هذه الكلمة خطأ، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائماً، لاسيما وهو ينهي عن الصوم في السفر، وقد سمى الصائمين بالعصاة.
قال مهنا سألت أحمد عن حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم) فقال: ليس فيه (صائم) إنما هو محرم - ذكره سفيان عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه وهو محرم). وعن طاووس وعطاء مثله عن ابن عباس.
وعن عبدالرزاق عن معمر عن ابن خيثم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله أيضاً. وهؤلاء أصحاب ابن عباس لا يذكرون صائماً.
قال الشيخ ابن تيمية قلت: وهذا الذي ذكره الإمام أحمد هو الذي اتفق عليه الشيخان البخاري ومسلم، ولهذا أعرض مسلم عن الحديث الذي ذكر حجامة الصائم ولم يثبت إلا حجامة المحرم، وتأولوا أحاديث الحجامة بتأويلات ضعيفة، كقولهم كانا يغتابان، وقولهم أفطر لسبب آخر، وأجود ما قيل ما ذكره الشافعي وغيره أن هذا منسوخ، فإن هذا القول كان في رمضان واحتجامه وهو مرحم كان بعد ذلك، لأن الإحرام بعد رمضان.
وهذا أيضاً ضعيف، بل هو صلوات الله عليه أحرم سنة ست عام الحديبية بعمرة في ذي القعدة، وأحرم من العام القابل بعمرة القضية في ذي القعدة، وأحرم من العام الثالث سنة الفتح من الجعرانة، وأحرم سنة عشر بحجة الوداع في ذي القعدة. فاحتجامه صلى الله عليه وسلم وهو محرم صائم لم يبين في أي الإحرامات كان.والذي يقوى أن إحرامه الذي احتجم فيه كان قبل فتح مكة هو قوله (أفطر الحاجم والمحجوم) فإنه قال هذا عام الفتح بلا ريب. هكذا في أجود الأحاديث.
وروى أحمد بإسناده عن ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال:(أفطر الحاجم والمحجوم). وكذا ورد في حديث شداد بن أوس.
وهنا في الحديثين قال فيهما الترمذي سألت البخاري فقال: ليس في هذا الباب أصح من حديث شداد بن أوس وحديث ثوبان - إلى أن قال: ومما يقوي أن الناسخ هو الفطر بالحجامة أن ذلك رواه عنه خواص أصحابه الذين كانوا يباشرونه حضراً وسفراً ويطلعون على باطن أمره مثل بلال وعائشة ومثل أسامة وثوبان مولياه. ورواه عنه الأنصار الذين هم بطانته مثل رافع بن خديج وشداد بن أوس.
وفي مسند أحمد عن رافع بن خديج عنه صلى الله عليه وسلم قال: أفطر الحاجم والمحجوم) قال أحمد: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع.
وكلام الشيخ طويل في هذا فنكتفي بما ذكرنا. والعجب ممن اعتمد على حديث احتجامه صلى الله عليه وسلم مع ما اتضح من كونه ليس في حال صيام على أنه لو صح أنه كان صائماً فإن حكاية الفعل لا تعارض النصوص القولية، بل تسقط حكاية الفعل ويبطل العمل بها الأمور ستة مبسوطة في الأصول، فكيف أغفلوها؟ حتى إن بعضهم لم يعتبر النصوص القولية ناسخة لحكاية الفعل التي فيها ما فيها، فلعل التقليد أوقفهم عن البحث رحمهم الله. وقد اتضح أنه لم يعتمر في رمضان، وحكاية الفعل يتطرق إليها من احتمال الخصوصية أو البقاء على أصل الإباحة والتمسك بالبراءة أو احتمال النسخ أو حصول الضرورة أو غير ذلك مما لا يتطرق إلى هذه الأحاديث التي تتضمن إعطاء حكم كلي وإظهار شرع عام فكان العمل بها أولى بل أوجب. وقد أطلت الكلام على هذا لأهميته.
وقد أوضح العلماء أن الفطر بالحجامة على وفق الأصول والقياس، فليس مخالفاً لها، بل هو من جنس الفطر بدم الحيض والاستمناء والتقيؤ عمداً، فإنه يفطر بأي وجه أراد إخراج الدم، كما أنه يفطر بأي وجه أراد إخراج القيء، وبعض العلماء قال لا يفطر بالفصاد، وليس بصحيح، لأن الدم من أعظم المفطرات، فهو حرام في نفسه، لما فيه من طغيان الشهوة والخروج عن العدل، والصائم مأمور، بحسم مادته، فالدم يزيد الدم، فهو من جنس المحظور. وبعضهم قال يفطر المحجوم دون الحاجم، وهذا مخالفة للنص بسبب عدم فهم العلة، فالعلة هي أن الحاجم يجتذب الهواء الذي في القارورة بامتصاصه، والهواء يجتذب ما فيها من الدم، فربما صعد مع الهواء شيء من الدم ودخل في حلقه وهو لا يشعر أو يحصل امتزاج للهواء مع مقدماته، والحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة غلق الحكم المظنة كالنائم الذي قد تخرج منه الريح وهو لا يدري يؤمر بالوضوء.
ثم ليعلم أن الصوم عبادة لا تتكرر، فينبغي الاحتراز فيه والتحفظ من كل ما فيه شبهة، فضلاً عما ورد النص بإبطال الصوم فيه، مع العلم أن بعض العلماء أوجبوا الكفارة في الحجامة وفي فعل كل مفطر، لأنه جناية على عبادة الصيام، لا فرق بينهما وبين الجماع، فليحذر من ذلك، وإن كان بعضهم قصر الكفارة على الجماع والإنـزال بالمساحقة.
(ثالثها) من أفسد صومه بشيء من المفطرات عمداً ثم جامع، فبعضهم قال ليس عليه كفارة لجماعه في صوم فاسد، والأكثرون أوجبوا الكفارة، وغلظوا عليه، لأنه عصى مرتين بفطره وجماعه، ومذهبهم أصح المذاهب وأقومها، لأنهم لو لم يوجبوا الكفارة لفسحوا المجال لكل شهواني حيواني أن يفسد صومه بالأكل ونحوه ليجعله ذريعة إلى مقصوده، وكلما عظم الذنب وجب أن تكون العقوبة أبلغ وأفظع.
(رابعها) تكره المباشرة والتقبيل وتكرار النظر للشباب، ويباح للشيخ تقبيل المباح ونحوه، لكن من أمنى أو أمذى بذلك فسد صومه.
(خامسها) خروج الدم الذي لا يمكن الاحتراز منه، كدم المستحاضة والجروح، والذي يرعف لا يخل بالصوم، بخلاف دم الحيض والنفاس فإنه يفطر.
(سادسها) يكره ذوق الطعام لغير حاجة ولا يفطر بدون مبالغة، والكحل الذي يصل إلى الدماغ يفطر، كالطيب المستنشق عند الحنابلة والمالكية، أما عند أبي حنيفة والشافعي فلا بأس به.
(سابعها) السواك ورد في فضله للصائم أحاديث لم يثبت منها شيء، ولكنه جائز بلا نـزاع قبل الزوال، وأما بعده فقد قال بعضهم بكراهته، ولكن الشيخ ابن تيمية يقول: لم يقم على كراهيته دليل شرعي يصلح أن يخص عمومات النصوص، وقياسه على دم الشهيد ونحوه ضعيف.
(ثامنها) مشروعية المضمضة والاستنشاق حالة الصيام باتفاق العلماء، إلا أنه لا يبالغ فيهما كخارج الصيام، كما في حديث لقيط بن صبرة:(وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً)، فإن بالغ الصائم فيهما ووصل إلى حلقه شيء من الماء لم يضر صومه عند أحمد.
(تاسعها) لا يضر ما وصل إلى الجوف أو الحلق أو الدماغ من غير قصد، كالغبار والدخان والذباب ودخان الطيب إذا كان من غير استنشاق، وكذلك الكحل والإدهان في الخارج بما ليس من طبعه سرعة السريان كالنفط في البدن إذا تعمده الصائم قاصداً، وما عدا ذلك فليس بمحظور ولا بمفطر.
(عاشرها) مضغ العلك بلا إدخال ولا ابتلاع، وهو نوعان: نوع رديئ يتحلل في الفم، فهذا لا يجوز إلا أن لا يبتلغ ريقه الذي تحلل فيه أجزاء منه، فإن ابتلع ريقه فقد أفطر، والنوع الثاني: ما كان قوياً لا يتحلل فيجوز.
(حادي عشرها) الحقنة ومداواة المأمومة وهي الشبحة في الرأس تصل إلى أم الدماغ، والجائفة وهي جراحة تصل إلى الجوف تكلم عليها بعض الفقهاء رحمهم الله فجعلوا دواءها من المفطرات بقياس يصعب إثباته لعدم وجود العلة ولوجود الفارق المفسد للقياس.
وقد أبطل الشيخ ابن تيمية قياسهم من وجوه كثيرة، وحقق عدم الإفطار بعلاج الجائفة والمأمومة، لأن الذي يصل إلى الدماغ أو الجوف ليس مغذياً ولا نافعاً للدم ولا يقصد به ذلك، وإنما هو علاج ضروري قد يرشح بعض أجزاء منه إلى ذلك. وقد كان المسلمون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يجرح أحدهم في الجهاد أو في غيره جروحاً مأمومة أو جائفة ونحوهما مما يضطرون إلى علاجها، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم خبر بمنعهم أو تنبيههم على أنهم مفطرة لصومهم، فعلم إباحة علاجها على الإطلاق دون استثناء أو تحفظ، وكل ما تعم به البلوى لابد أن يبين الرسول حكمه بياناً عاماً شافياً، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهو الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، بيّن لأمته ما هو أخف من ذلك بكثير، بل بيّن لهم آداب قضاء الحاجة، فلو كان هذا مما يضر أمته في عبادتها لاستحال سكوته بدون بيان.
وأما الحقنة فقالوا: لا تفطر إذا كانت من طريق الإحليل، وتفطر إذا كانت من طريق الدبر. والشيخ ابن تيمية جعلها لا تفطر من كلا الطريقين.
وكلام الفقهاء أحوط، خصوصاً وأنه يوجد في هذا الزمان حقن غذائية توصل من الدبر إلى الأمعاء.
هذا وإني لم أنقل كلام الشيخ حرصاً على الاختصار من جهة، ولكونه مطبوعاً مشهوراً في رسالة خاصة بالصيام، وفي فتاويه المشهورة في المجلد الخامس والعشرين.
وفي هذا الزمان ظهر حقنات طبية تسمى بالإبرة، وقد يضطر الصائم إليها، وبعض العلماء قال بتحريمها والإفطار بها، وبعضهم جوزها وحكم بعدم الإفطار بها، وينبغي إمعان النظر فيها وفي مادتها، فهي نوعان: نوع يحقن من العضل (الورك) ونوع في الوريد (إبرة عرق). كما أن فيها ما يحمل التغذية للبدن، وفيها ما هو دواء صرف.
فعلى المفتي أولاً مراعاة الضرورة الداعية إليها، فإن كانت ضرورة ملحة لا تتحمل التأخير إلى بعد الغروب وكانت علاجاً صرفاً ساغ له الإفتاء بجوازها قياساً على علاج المأمومة والجائفة أو قياساً على الحقنة من الإحليل، وإن كان فيها غذاء ينتعش به البدن ويتغير بسببه جهاز الهضم ودورته فالأولى أن يسلك الاحتياط، وكذلك ما لا يضر تأخيره إلى الليل فليؤخر.
أما الحقنة من الوريد فلا شك في تأثيرها على المعدة وسائر الأجهزة الداخلية، فلا يجوز استعمالها نهاراً، لأن الصوم ينتهي عند الليل ولا يتكرر في السنة، فينبغي الاحتياط والتحفظ.
(ثاني عشرها) ليلة القدر ترجى في الأوتار من العشر الأواخر وأحراها ليلة السابع والعشرين أو الحادي والعشرين، وحظ الأمة من ليلة القدر أكمل من حظهم من ليلة المعراج، بخلاف الرسول صلى الله عليه وسلم فإن ليلة الإسراء والمعراج أفضل في حقه وأكمل حظاً. وقد غيب الله عنا علم ليلة القدر لنجتهد طيلة العشر في التهجد والقراءة والضراعة، ولا يجوز إحياء غيرها كليلة الإسراء أو النصف من شعبان، فإنه لم يرد فيها نص صحيح ولا حسن، بل هي بدعة.
(ثالث عشرها) يسن صوم التطوع وأفضله صوم يوم وإفطار يوم إذا لم يحصل فيه إرهاق أعصاب، ولا قعود عن واجب، ولا تعطل عن معيشة، ولا إضرار بنفس أو أهل أو مال، كما يسن صيام يوم الاثنين والخميس، وصيام أيام البيض من كل شهر، وصيام عشر ذي الحجة لغير الحاج وأفضلها يوم عرفة وهو كفارة سنتين، وصوم عاشوراء على تفصيل فيه، ويكره إفراد شهر رجب بالصوم، وكذا يوم الجمعة والسبت، إلا أن يوافق عادة مسنونة، ولم يرد حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف في أي عمل يعمل في شهر رجب سوى أحاديث منكرة مكذوبة باتفاق أهل النقل، ولم يعتمر صلى الله عليه وسلم في رجب قطعاً ومانسب عنه فهو غلط بتحقيق أهل النقل، وكذا ليلة النصف من شعبان لم يرد فيها ما يعتمد عليه قطعاً ولا في ليلة المولد أو المعراج، فجميع ما يفعل فيهما بدعة لم يرد بها نص ولا فعل صحابي أو أحد من التابعين.
(رابع عشرها) وردت أخبار كثيرة مكذوبة في يوم عاشوراء من أنه اليوم الذي تاب الله فيه على آدم، وأنه يوم استواء السفينة على الجودي، ويوم رد يوسف على يعقوب، وإنجاء موسى وقومه من الغرق، ونجاة إبراهيم من النار، وفداء إسماعيل، وشفاء أيوب، وغير ذلك من الأكاذيب التي روجها المبتدعة المبطلون والجهال المقلدون، وقد وضعوا حديث التوسعة (من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة). وقد قرر علماء الحديث أنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد عزاه بعض نواصب الكوفة إلى رواية سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن المنتشر عن أبيه، وإبراهيم كوفي، وأهل الكوفة كان فيهم طائفتان متناقضتان في المذهب: طائفة تزعم موالاة الحسين وأهل بيته رضي الله عنهم وتجعل يوم عاشوراء مأتماً للندب والنياحة وإنشاء قصائد الحزن وإعادة دعوى الجاهلية بأبشع مظهر، وعارض هؤلاء طائفة النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته، وهم ما بين ضلال وجهال، قابلوا الكذب بالكذب، والفاسد بالفاسد، والشر بالشر، والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور من مندوبية الكحل والخضاب والزينة وتوسيع النفقات وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ونحوها من البدع.
ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشورا شيئاً من هذه الأمور، لا شعائر الحزن والترح، ولا شعائر السرور والفرح، ولكنه صلى الله عليه وسلم لما استقر بالمدينة وجد اليهود يصومون هذا اليوم، فقال لهم: ما هذا؟ فقالوا: هذا يوم نجى الله فيه موسى من الغرق فقال: نحن أحق بموسى من اليهود: فصامه وأمر بصيامه، وكذلك كانت قريش تعظمه في الجاهلية ويقال إن صومه كان مشروعاً على من قبلنا وإنه استمر صيامه حتى نسخ الله وجوبه بصوم رمضان.
وقال ابن تيمية: اليوم الذي أمر الناس بصيامه كان يوماً واحداً، فلما كان العام القابل فرض صوم رمضان فنسخ صيام عاشوراء، ثم في آخر عمره بلغه تعظيم اليهود له بإنجاء موسى فيه من الغرق، فقال: نحن أحق بموسى منهم، لئن أحياني الله لأصومن التاسع مع العاشر، وهذا لحرصه على مخالفة اليهود، ولا يشابههم في اتخاذه عيداً، وكان من الصحابة والعلماء من لا يصومه ولا يستحب صومه، بل يكره إفراده بالصوم، والصحيح استحباب صيامه.
قال ابن القيم في زاد المعاد: مراتب صومه ثلاثة، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم، وأما إفراد التاسع فمن نقص فهم الآثار.اهـ.
نعود إلى حديث التوسعة المكذوب فنقول: قد قال حرب الكرماني في مسائله: سئل أحمد بن حنبل عن هذا الحديث:(من وسع على أهله يوم عاشوراء) فلم يره شيئاً، قال ابن تيمية: وأعلى ما عندهم أثر يروى عن إبراهيم بن المنتشر، قال فيه سفيان بن عيينة: جربناه منذ ستين عاماً فوجدناه صحيحاً، وإبراهيم من أهل الكوفة، ولم يذكر ممن سمع هذا ولا عمن بلغه، فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون علياً وأصحابه ويريدون أن يقابلوا الشيعة بالكذب مقابلة البدعة بالبدعة.
وأما قول ابن عيينة فلا حجة فيه، فإن الله أنعم عليه برزقه، وليس في إنعام الله بذلك ما يدل على أن سبب ذلك هو التوسيع يوم عاشوراء، وقد وسع الله على من هم أفضل الخلق من المهاجرين والأنصار، ولم يكونوا يقصدون أن يوسعوا على أهليهم يوم عاشورا بخصوصه. وهذا كما نرى كثيراً من الناس ينذرون نذراً لحاجة يطلبها فيقضي الله حاجته فيظن أن النذر كان هو السبب. اهـ بتصرف.
(قلت) كثيراً ما يوسع الله على الفسقة الذين لا يقيمون لعاشوراء وزناً كما لا يقيمون لغيره، ثم إن يوم عرفة ويوم النحر أفضل من عاشوراء باتفاق الأمة، ولم يرد نص بالتوسعة على الأهل فيهما، مع أن التوسعة فيهما أولى وأفضل، لكن لما لم يكن للمبتدعين حاجة نفس فيهما لم يختلقوا لهما حديثاً، ثم إن التوسعة مطلوبة من ولي الأسرة في كل وقت حسب إمكانه.فما معنى تخصيص عاشوراء على غيره في الأيام التي هي أفضل منه، بل حتى شهر رمضان الذي هو أفضل وأفضل لم يرد فيه تخصيص بالتوسعة.
(خامس عشرها) سئل الشيخ ابن تيمية عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟ فأجاب: أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان. والليالي العشر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة.
قال ابن القيم: (وإذا تأمل الفاضل اللبيب هذا الجواب وجده شافياً كافياً فإنه ليس من أيام العمل فيها أحب إلى الله من أيام عشر ذي الحجة، وفيها يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم التروية، وأما ليالي عشر رمضان فهي ليالي الإحياء التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحييها كلها وفيها ليلة خير من ألف شهر، فمن أجاب بغير هذا التفصيل لم يمكنه أن يدلي بحجة صحيحة.
(سادس عشرها) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم أكثر شعبان لأنه يطعم ويسقى ليس كأمته كما نص على ذلك، فيكره صيام شعبان لأمته، لأنه يضعفهم عن صوم رمضان، ولكن صيام وسطه أيام البيض، أو صوم الاثنين والخميس لمن جعلها عادة، فهو مندوب ولا يضعف عن صيام رمضان.
(سابع عشرها) ذكر الشيخ ابن تيمية قاعدة مهمة في الدين فقال:(ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل، كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء: لا: ولكن الأجر على قدر منفعة العمل ومصلحته وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله، فأي العملين كان أحسن وصاحبه كان أطوع وأتبع كان أفضل، فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل، اهـ.
(ثامن عشرها) من أفطر في رمضان عامداً مستحلاً له بلا عذر مسوغ ولا جهل بالتحريم وجب قتله، والجاهل يعرف حتى يمتثل، والفاسق التارك للصوم بلا جحود ولا استحلال يعاقبه الإمام أو نائبه حسب ما يراه من إصلاح حاله وفق اجتهاده، ومن زنى في رمضان يحده الإمام حد الزنى أو يقتله إن كان مستحلاً له.
(تاسع عشرها) الصيام عبادة لله وحده لا يجوز إيقاعه لغير الله، فمن صام لغير الله من أجل وطن أو انتصار لشخص أو قوم فهو مشرك شركاً إذا أصر عليه بعد تبليغه بحكم الله كان كافراً يجب على المسلمين أن يعاملوه معاملة الكفار. فصوم بعض الزعماء وغيرهم من أدعياء القومية والوطنية غضباً للوطن أو نصرة لمن يرونه وطنياً ونحو ذلك مما جلبته المذاهب الغربية هو شرك قد يؤدي إلى الكفر كما بيناه، فالصوم عبادة دينية محضة من حرفها لغير الله فقد خرج من الدين.
(العشرون) ما يفعله الجهال والمترفون من مشابهة النصارى والمجوس في أعيادهم أو مستقبل صيامهم أو نهايته من أنواع الطبخ أو الهدايا أو المراسيم والمهرجانات، فهو حرام، ومخالطتهم في أعيادهم تعتبر من شهود الزور الذي مدح الله المؤمنين بتركه. قال الضحاك في قوله تعالى:(والذين لا يشهدون الزور)، قال: عيد المشركين.
وروى بإسناده عن ابن سلام عن عمرو بن مرة. (والذين لا يشهدون الزور) لا يماكثون أهل الشرك على تركهم ولا يخالطونهم، وذلك منه ما هو مكروه، وما هو حرام، وما هو مخل بالعقيدة والعياذ بالله. فالطعام الذي يعمل في مستقبل صيامهم أو نهايته مكروه فعله من المسلمين، وإهداؤه لهم حرام لتشجيعهم، وأما مشاركتهم في أعيادهم ومخالطتهم بها فحرام لتشجيعهم على الباطل وترك التميز الواجب عنهم.
وأما قول القائل: المعبود واحد وإن كانت الطرق مختلفة، وغير ذلك من الأقوال والأفعال التي تتضمن أن الملة النصرانية ونحوها من ملل الكفر موصلة إلى الله، وقد ذم الله أهلها وسماهم مفترين، وأما تضمن استحسان بعض ما فيها مما يخالف دين الله فهذا كفر بالله ورسوله وكتابه، إذ كيف يجعل دين النصارى ونحوه موصلاً إلى الله، والله يحكم بكفرهم ويأمرنا بقتالهم في قوله:(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم - لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة)؟.
ويقول في الآيات (29 - 32) من سورة التوبة: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله - إلى قوله: المشركون).
ويقول في سورة طه: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً أن دعوا للرحمن ولداً وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً).
فكيف يجرؤ مسلم على استحسان شيء من دينهم الباطل أو يزعم أنه موصل إلى الله؟ هذا عين الكفر والضلال، وقد سبق في تفسير سورة الفاتحة أن سلوك الصراط المستقيم يقتضي مخالفة جميع أهل الكفر ومجانبتهم وعدم التشبه بهم أو الالتقاء معهم في أي شيء من شؤون الحياة، وإدخال السرور عليهم بمشاركتهم في أعيادهم والتبريك لهم حرام لتشجيعهم على باطلهم وانتقاصهم للمسلمين بهذه الميوعة.
وقد ورد الحديث الصحيح:(من تشبه بقوم فهو منهم).
وقد قال عمر لأبي موسى: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله).
ونص العلماء على كراهة أكل ما ذبحوه في أعيادهم كراهة تحريم أو تنـزيه على قولين مشهورين.
وقد ذكر جمهور الأئمة أنه لا يحل للمسلمين أن يبيعوا للنصارى شيئاً من مصلحة عيدهم، لا لحماً ولا دماً ولا ثوباً، ولا يعارون ما يمتطون إليه في عيدهم، ولا يعاونون على شيء من دينهم، لأن ذلك من تعظيم شركهم وعونهم على كفرهم؛ فكما أن المسلم لا يحل له أن يعينهم على شرب الخمر بعصرها أو نحوها، فكيف يعينهم على ما هو من شعائر الكفر؟ وإذا كان لا يحل له أن يعينهم فكيف إذا كان هو الفاعل لذلك؟ فهذا كلام محققي العلماء في ذلك، فكيف بمؤاخاة النصارى ونحوهم باسم الوطنية أو القومية، فمؤاخاتهم أو الدعوة لهما مناقضة لملة إبراهيم من الأساس.
(الحادي والعشرون) لا يجوز للزوجة صيام نفل بدون إذن زوجها، لأن واجب حقه في بدنها أولى من صيام التطوع، فيجب عليها الإفطار منه إذا أراد.
(وهنا فائدة) وهي أن المتطوع بفعل لا يجب عليه إتمامه إلا الحج فقط.
(الثاني والعشرون) ورد الترغيب بصوم ست من شوال لأنه يجبر ما حصل من الخلل في صيام رمضان، ولأن الحسنة بعشر أمثالها، فيكون المتابع لرمضان بها كمن صام الدهر. وقد وردت النصوص بذلك، لكن اختلف العلماء هل تصام متتابعات أو مفرقات، فالإمام مالك يرى تفريقها محاذراً من أن يبتدع الجهال والمتنطعون عيداً ثانياً بعد اختتامها. وقد صدقت فراسته رحمه الله، فاتخذوا عيداً سموه عيد الأبرار، فماذا يكون عيد الفطر؟.
(الثالث والعشرون) شرع الله صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وهذا مبني على أن فلاح العبد متوقف على زكاة نفسه وطهارتها بما شرع الله من صلاح الأقوال والأعمال، وزكاة الفطر من بينها، فهي إذن مؤهلة للمؤمن لأن ينال الفلاح، فصدقة الفطر فضلها عظيم، وقد قال بعض المفسرين إنها المقصودة من قول الله تعالى:(قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى). فأناط الفلاح بها وبصلاة العيد، فهي واجبة على كل عين من أعيان المسلمين صغاراً وكباراً تزكية لنفوسهم جميعاً، وتوسعة على الفقراء في العيد، صيانة لكرامتهم وحفظاً لعزتهم من ذل السؤال أو حصول البؤس بالجوع، وليكون المجتمع الإسلامي سعيداً مرحوماً.
وقد روى الإمام مالك في الموطأ والشيخان في صحيحيهما عن ابن عمر: قال:(فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين). وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام (بر) أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب).
وعند بعض العلماء يجوز الإطعام من غالب قوت البلد. وبعضهم يرى إخراج القيمة، وبعضهم يرى الاقتصار على هذه الأصناف الخمسة التزاماً لنص الحديث. وهو رأي جميل سديد، ولكن من نظر إلى واقع الفقراء وكونهم يبيعون التمر ونحوه بأقل من نصف قيمته، فيقل انتفاعهم بما شرعه الله لهم، فإنه يرى إخراج القيمة أحظ للفقراء وأقوم لأداء هذه الشعيرة.
(الرابع والعشرون) قضاء رمضان للمفطر بعذر ينبغي أن لا يتساهل في تأخيره اغتناماً لفرصة صحته وقوته، فإن أخره إلى شعبان تحتم عليه الإسراع بالقضاء بقدر ما عليه، ومن لم يزل عذره حتى وافاه رمضان آخر فالواجب في حقه الإطعام والله أعلم. فهذه جملة ميسرة من حكم الصيام وأحكامه ضمنتها هذا التفسير والحمدلله.